كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} يعني ما كانت منّا شهادة في عمرنا على شيء إلاّ بما علمنا وليست هذه شهادة منّا إنّما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم، وقال ابن اسحاق: معناه: وما قلنا: إنّه سرق إلاّ بما علمنا، قال: وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يسترقّ السارق بسرقته.
{وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} قال مجاهد وقتادة: ما كنا نعلم أنّ ابنك يسرق ويصير أمرنا إلى هذا، فلو علمنا ذلك ما ذهبنا به معنا، وإنّما قلنا ونحفظ أخانا ممّا لنا إلى حفظه منه سبيل، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس يعنون: أنّه سرق ليلا وهم نيام والغيب هو الليل بلغة حمير، وقال ابن عباس: لم نعلم ما كان يعمل في ليله ونهاره ومجيئه وذهابه، عكرمة: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} لعلّها دُسّت بالليل في رحله.
وقيل معناه: قد أُخذت السرقه من رحله ونحن ننظر إليه، ولا علم لنا بالغيب فلعلّهم سَرّقوه ولم يسرق، وهذا معنى قول أبي اسحاق، وقال ابن كيسان: لم نعلم أنّك تنصاب كما أُصبت بيوسف، ولو علمنا ذلك لم نأخذ فتاك ولم نذهب به.
{وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا} يعني أهل القرية وهي مصر، ابن عباس: قرية من قُرى مصر.
{والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا} يعني القافلة التي كنا فيها وكان معهم قومٌ من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام، قال ابن اسحاق: قد عرف الأخ المُحتبس بمصر أنّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لما صنعوا في أمره فأمرهم أن يقولوا هذا الاسم،: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ} في الآية اختصار معناها، فرجعوا إلى أبيهم وقالوا له ذلك، فقال: بل سوّلت أي زيّنت: {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أردتموه: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} يوسف وبنيامين وأخيهما المقيم بمصر: {إِنَّهُ هُوَ العليم} بحزني ووجدي على فقدهم: {الحكيم} في تدبير خلقه.
{وتولى عَنْهُمْ} وذلك أنّ يعقوب لمّا بلغه خبر بنيامين تتامّ حزنه وبلغ جهده وجدّد حزنه على يوسف، فأعرض عنهم: {وَقَالَ ياأسفى} يا حزني: {عَلَى يُوسُفَ} وقال مجاهد: يا جزعاه، والأسف: شدّة الحزن والندم.
{وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن} مقاتل: لم يُبصر بهما ستّ سنين: {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي مكظوم مملوء من الحزن، ممسك عليه لا يبثّه، ومنه كظم الغيظ، عطاء الخراساني: كظيم: حزين، مجاهد: مكبود، الضحّاك: كميد، قتادة: تردّد حزنه في جوفه، ولم يتكلّم بسوء، ولم يتكلّم إلاّ خيرًا، ابن زيد: بلغ به الجزع حتى كان لا يكلّمهم، ابن عباس: مهموم، مقاتل: مكروب، وكلّها متقاربة.
سعيد بن جبير: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يعط أُمّة من الأمم إنّا لله وإنّا إليه راجعون عند المصيبة إلاّ أُمّة محمّد، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه لم يسترجع: إنّما قال يا أسفى على يوسف؟».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدّثنا عبدالله بن أحمد ابن حنبل، قال: حدّثني أُبي، عن هشام بن القاسم عن الحسن، قال: كانت بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانين عامًّا لا تجف عينا يعقوب، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
{قَالُواْ} يعني ولد يعقوب: {تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي لا تزال تذكر يوسف، لا تفتر من حبّه، يقال: ما فتِئتُ أقول ذلك، وما فتأتُ أو أفتؤ، فتأً وفتوًّا، قال أوس بن حجر:
فما فتِئتْ حيّ كأن غبارها ** سرادق يوم ذي رياج ترفع

وقال آخر:
فما فتئت خيل تثوب وتدّعي ** ويلحق منها لاحق وتقطع

أي فما زالت.
وحذف (لا) قوله فتئ كقول امرئ القيس:
فقلتُ يمين الله أبرحُ قاعدًا ** ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي

أي: لا أبرح.
وقال خداش بن زهير:
وأبرحُ ما أدام الله قومي ** بحمد الله منتطقًا مجيدًا

أي لا أبرح ومثله كثير.
{حتى تَكُونَ حَرَضًا} اختلف ألفاظ المفسّرين فيه، فقال ابن عباس: دنفًا، العوفي: يعني الهد في المرض، مجاهد: هو ما دون الموت، يعني قريبًا من الموت، قتادة: هرِمًا، الضحّاك: باليًا مدبرًا، ابن اسحاق: فاسدًا لا عمل لك، ابن زيد: الحرض: الذي قد ردّ إلى أرذل العمر حتى لا يعقل، الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم، مقاتل: مُدنفًا، الكسائي: الحرض: الفاسد الذي لا خير فيه، الأخفش: يعني ذاهبًا، المُخرج: ذائبًا من الهمّ، الفرّاء عن بعضهم: ضعيفًا لا حراك بك، الحسن: كالشنّ المدقوق المكسور، علام تعبًا مُضنى، ابن الأنباري: هالكًا فاسدًا، القتيبي: ساقطًا، وكلّها متقاربة.
ومعنى الآية: حتى يكون دنف الجسم مخبول العقل، وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، ومنه قول العَرجي:
إنّي امرؤ لجّ بي حبٌّ فأحرضني ** حتى بليتُ وحتى شفني السقم

يُقال: منه رجل حرض وامرأة حرض ورجلان وامرأتان حرض، ورجال ونساء حرض يستوي فيه الواحد والإثنان والجمع، والمذكّر والمؤنّث، لأنّه مصدر وضع موضع الاسم، ومن العرب من يقول للذكر حارض وللأُنثى حارضة، فإذا وصف بهذا اللفظ ثنّى وجمع وانّث، ويُقال: حرض، يحرّض، حرضًا وحراضة فهو حرض، ويُقال: رجل محرّض وأنشد في ذلك:
طلبته الخيل يومًا كاملا ** ولو آلفته لأضحى مُحرضًا

وقال امرؤ القيس:
أرى المرءَ ذا الأذواد يُصبح مُحرضًا ** كإحراض بكر في الدّيار مريض

{أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} أي الميّتين، وقال يعقوب عند ذلك لمّا رأى غلظتهم وسوء لفظهم،: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} لا إليكم، قال المفسّرون دخل على يعقوب جار له فقال: يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ قال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من مُصاب يوسف، فأوحى الله إليه: يا يعقوب تشكوني إلى خلقي؟ قال: يا ربّ خطيئة أخطأتها فاغفر لي، قال: فإنّي قد غفرتها لك وكان بعد ذلك إذا سُئل قال: إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله.
وقال حبيب بن أبي ثابت: بلغني أنّ يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على عينيه، وكان يرفعهما بخرقة، فقال له رجل: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان.
فأوحى الله إليه: يا يعقوب تشكوني، فقال: خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
وعن عبدالله بن قميط، قال: سمعت أبي يقول: بلغنا أنّ رجلا قال ليعقوب عليه السلام: ما الذي أذهب بصرك؟ قال: حزني على يوسف، قال: فما الذي قوّس ظهرك؟ قال: حزني على أخيه، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ وعزّتي وجلالي لو كانا ميّتين لأخرجتهما لك حتى تنظر إليهما، وإنّما وجدت عليكم أنّكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين فلم تطعموه شيئًا، وأنّ أحبّ خلقي إليّ الأنبياء ثمّ المساكين، فاصنع طعامًا وادعُ إليه المساكين، فصنع طعامًا، ثمّ قال: من كان صائمًا فليفطر الليلة عند آل يعقوب.
وروى أبو عمران عن أبي الخلد ووهب بن منبه، قالا: أوحى الله تعالى إلى يعقوب: تدري لم عاقبتك وغيّبت عنك يوسف وبنيامين؟ قال: لا إلهي، قال: لأ نّك شويت عتاقًا وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه، ويقال: إنّ سبب ابتلاء يعقوب بفقد يوسف، أنّه كانت له بقرة ولها عجول فذبح عجولها بين يديها، وإنّما كانت تخور فلم يرحمها، فأخذه الله به وابتلاه بفقد يوسف أعزّ ولده.
وقال وهب بن منبه والسدّي وغيرهما: أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن، فقال: هل تعرفني أيّها الصدّيق؟ قال: أرى صورة طاهرة وريحًا طيّبة، قال: فإنّي رسول ربّ العالمين، وأنا الروح الأمين، قال: فما الذي أدخلك حبس المذنبين وأنت أطيب الطيّبين، ورأس المقرّبين، وأمين ربّ العالمين؟ قال: ألم تعلم يا يوسف أنّ الله يُطهّر البيوت لهؤلاء الطيّبين، وأنّ الأرض التي تدخلونها هي أطهر الأرضين، وأنّ الله قد طهّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين؟
قال: كيف لي بابن الصدّيقين وتعدّني من المخلصين، وقد أدخلت مدخل المُذنبين، سمّيت باسم المفسدين؟ قال: لأنّه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربّك فلذك سمّاك الله في الصدّيقين، وعدّك مع المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين، قال: هل لك علم بيعقوب أيّها الروح الأمين؟ قال: نعم وهب الله له البلاء الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم، قال: فما قدر حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فماذا له من الأجر يا جبرئيل؟ قال: أجر مائة شهيد، قال: أفتراني لاقيه؟ قال: نعم، فطابت نفس يوسف، قال: ما أُبالي ما ألفيته أن رأيته.
وأمّا قوله بثّي فالبثّ: أشدّ الحزن سُمّي بذلك لأنّ صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه أي يُظهره، يقال: بثّ، يبثّ فهو باثّ وأبثّ يأبثه أبثًا يُبثّ فهو مُبثّ إذا أظهره قال ذو الرمّة:
وقفتُ على ربع لميّة ناقتي ** فما زلتُ أبكي عندهُ وأُخاطبه

وأسقيه حتى كاد ممّا أبُثّه ** تكلّمني أحجاره وملاعبه

وقال الحسن: بثّي أي حاجتي، وقال محمّد بن القاسم الأنباري: البثّ: التفرق، وقال محمّد بن إسحاق: معناه: إنّما أشكو حزني الذي أنا فيه إلى الله، وهو من بثّ الحديث.
{وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال ابن عباس: يقول أعلم أنّ رؤيا يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له، وقال آخرون: وأعلم أنّ يوسف حيّ.
قال السدّي: لما أخبره ولده بسيرة الملك وقوله أحسّت نفس يعقوب فطمع وقال: لعلّه يوسف، ويروى أنّه رأى الملك في المنام فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا والله، وهو حيّ.
ويقال: أرسل الله إليه ذئبًا فسلّم عليه وكلّمه، فقال له يعقوب: أكلت ابني وقّرة عيني وثمرة فؤادي؟ قال: قد والله علمتَ يا يعقوب أنّ لحوم الأنبياء وأولاد الأنبياء علينا حرام، فلذلك قال لبنيه: {يا بني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} ولا تيأسوا من روح الله سيروا واطلبوا الخبر، من يوسف وأخيه: وهو تفعّلوا من الحسّ يعني تتبّعوا، قال ابن عباس: إلتمسوا،: {وَلاَ تَيْأَسُواْ}، أي لا تقنطوا، من روح الله: من فرج الله، قال ابن زيد وقتادة، والضحّاك: من رحمة الله،: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون}.
يُقال: سُئل ابن عباس عن الفرق بين التجسّس والتحسّس فقال: لا يبعد أحدهما عن الآخر إلاّ أنّ التحسّس في الخير والتجسّس في الشرّ، الحسن وقتادة: ذكر لنا أنّ نبي الله يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلاّ أتى حسن ظنّه بالله من ورائه، وما ساء ظنّه بالله ساعة قط من ليل أو نهار، الحسن عن الأحنف بن قيس عن ابن عباس بن عبدالمطّلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال داود: إلهي أسمع الناس يقولون إله إبراهيم وإسحق ويعقوب فاجعلني رابعًا: فقال: لست هناك، إنّ ابراهيم لم يَعدل بي شيئًا قط إلاّ اختارني، وإنّ إسحاق جادَ لي بنفسه، وإنّ يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف».
{قَالُواْ يا أيها العزيز} في الآية متروك يستدلّ بسياق الكلام عليه تقديره: فجاؤوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف، فقالوا له: يا أيّها العزيز، يا أيّها الملك بلغة حمير،: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} الشدّة والجوع: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} قليلة، رديئة ناقصة، كاسدة. لا تنفق في شيء من الطعام إلاّ يتوجبن من البائع فيها، وأصل الإزجاء السوق والدفع، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَابًا} [النور: 43] قال النابغة الذبياني:
وهبّت الريحُ من تلقاء ذي أزل ** تُزجي مع الليلِ من صَرّادها صرما

وقال حاتم الطائي:
لَيبكِ على مَلِحان ضيفٌ مُدَفَّعٌ ** وأرمَلةٌ تُزجي مع الليلِ أَرملا

وإنّما قيل للبضاعة: مزجاة لأنّها غير نافقة وإنّما يجوز تجويزًا على دفع من أخذها. وأمالها حمزة والكسائي وفخّمها الباقون. واختلف المفسّرون في هذه البضاعة ما هي؟ عكرمة عن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفًا لا تنفق إلاّ بوضيعه بإذن عنه، يعني لا تنفق في الطعام؛ لأنّه لا يُؤخذ في ثمن الطعام إلاّ الجيّد، ابن أبي مليكة: حبل خِلق الغرارة والحبل ورثة المتاع، عبدالله بن الحرث: متاع الأعراب، الصوف والسّمن، الكلبي ومقاتل وابن حيّان: الصنوبر وحبّة خضراء، سعيد بن جبير: دراهم قليلة، ابن اسحاق: قليلة لا تبلغ ما كان يشترى به إلاّ أن تتجاوز لنا فيها أحسن كانت أو أوطأ، جويبر عن الضحّاك: النعال والأدم، ورويَ عنه أنّها سويق المقل.
{فَأَوْفِ لَنَا الكيل} أي أعطنا بها ما كنت تُعطينا من قبل بالثمن الجيّد الوافي: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} وتفضّل علينا بما بين الثمنين الجيّد والرديء. ولا تنقصنا من السعر، هذا قول أكثر المفسّرين، وقال ابن جريج والضحّاك: تصدّق علينا بردّ أخينا إلينا.
{إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} قال الضحّاك: لم يقولوا: إنّ الله يجزيك أن تصدّقت علينا لأنّهم لم يعلموا أنّه مؤمن، قال عبدالجبار بن العلاء: سُئِلَ سفيان بن عُيينة: هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبيّنا صلى الله عليه وسلم قال سفيان: ألم تسمع قوله: {فَأَوْفِ لَنَا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} أراد سفيان أنّ الصدقة كانت لهم حلالا وأنّها إنّما حُرّمت على نبيّنا صلى الله عليه وسلم وروي أنّ الحسن البصري سمع رجلا يقول: اللهمّ تصدّق عليّ، فقال: يا هذا إنّ الله لا يتصدّق إنّما يتصدّق من يبغي الثواب، قل: اللهمّ أعطني أو تفضّل عليّ.
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} اختلفوا في السبب الذي حمل يوسف على هذا القول، فقال ابن اسحاق: ذُكر لي أنّهم لمّا كلّموه بهذا الكلام غلبته نفسه وأدركته الرقّة فانفضّ دمعه باكيًا ثمّ باح لهم بالذي كان يكتم فقال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}.
وقال الكلبي: إنّما قال ذلك حين حكى لإخوانه: أنّ مالك بن أذعر قال: إنّي وجدت غلامًا في بئر حاله كيت وكيت وابتعته من قوم بألف درهم فقال: أيّها الملك نحن بعنا ذلك الغلام منه، فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولّى يهوذا وهو يقول: كان يعقوب يحزن لفقد واحد منّا حتى كفّ بصره فكيف به إذًا لو قتل بنوه كّلهم، ثمّ قالوا: إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا وإنّه في مكان كذا وكذا، فذاك حين رحمهم وبكى وقال لهم ذلك القول.
وقال بعضهم: إنّما قال ذلك حين قرأ كتاب أبيه إليه وذلك أنّ يعقوب لما قيل له: إنّ ابنك سرق، كتب إليه: من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله، بن ابراهيم خليل الله أمّا بعد فإنّا أهلُ بيت مُوكَّل بنا البلاء، فأمّا جدّي فشدّت يداه ورجلاه وأُلقي في النار فجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، وأمّا أبي فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكّين على قفاه، ليُقتل، ففداه الله، وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البريّة ثمّ أتوني بقميصه مُلطّخًا بالدم وقالوا: قد أكله الذئب وذهب [..........] ثمّ كان لي ابن وكان أخاه من أُمّة وكنت أتسّلى به، فذهبوا به ثمّ رجعوا وقالوا: إنّه سرق، وإنّك حبسته بذلك وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقًا، فإنْ ردَدته إليّ وإلاّ دعوت عليك دعوة تنزل السابع من ولدك، فلمّا قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره فقال لهم ذلك.
وقال بعضهم: إنّما قال ذلك حين سأل أخاه بنيامين: هل لك ولد؟ قال: نعم، ثلاثة بنين، قال: فما سمّيتهم؟ قال: سمّيتُ الأكبر يوسف قال: ولِمِ؟ قال: محبّة لك، لأذكرك به، قال: فما سمّيت الثاني؟ قال: ذئبًا، قال: ولم سمّيته بالذئب وهو سبع عاقر؟ قال: لأذكرك به، قال: فما سمّيت الثالث؟ قال: دماء، قال: ولمَ؟ قال لأذكرك به، فلمّا سمع يوسف المقالة خنقته العبرة، ولم يتمالك، فقال لإخوته: لمّا دخلوا عليه: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ فرّقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إذ أنتم جاهلون، بما يؤول إليه أمر يوسف.